فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة المائدة:
وقد تقدم وجه في مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضًا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة، فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعًا لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: {ما جعل اللَهُ مِن بحيرة ولا سائبة} وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأَرض فكأَنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا} وذلك أبسط من قوله في البقرة: {ولَكُم في القِصاص حياة} وفي البقرة: {وإِذ قلنا ادخلوا هذه القرية} وذكر في قصتها هنا: {فسوفَ يأَتي اللَهُ بقومٍ يحبهم ويحبونه} وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطًا بذكر الكفارة وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أَكبر من نفعهما} وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: {قل هل أَنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} وقوله: {قد ضلوا من قبل وأَضلوا عن سواء السبيل} وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدًا وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: {إِلا الذينَ يصلون إِلى قوم بينَكُم وبينَهُم ميثاق} وقوله: {وإِن كانَ مِن قومٍ بينكُم وبينهم ميثاق فدية} والضمنى: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: {إِن اللَهُ يأَمُركُم أَن تؤدوا الأمانات إِلى أَهلها} فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة: {يا أَيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود} التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة، وهو: أن تلك أولها: {يا أَيها الناس} وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المكي، وتقديم العام وشبه المكي أنسب ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول، من الوحدانية، والكتاب، والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى ولما وقع في سورة النساء: {إِنا أَنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعًا، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي. اهـ.

.تفسير الآية رقم (1):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيرًا إلى أن الناس الذين خوطبوا أو تلك الأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والأمتثال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {أوفوا} أي صدقوا ذلك بأن توفوا {بالعقود} أي العهود الموثقة المحكمة وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيرًا بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك: {اذكروا نعمتي وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40] وإخبارًا لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيرًا إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: {أحلت لكم} والإحلال من أجل العقود {بهيمة} وبينها بقوله: {الأنعام} أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفًا بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله: {لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنيًا من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبرًا أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: {إلا ما يتلى عليكم} أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب {غير محلي الصيد} على الحال أدل دليل على أن هذا السياق.
وإن كان صريحه مذكرًا بالنعمة لتشكر- فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان: {ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء: 119] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه دينًا، وفصّلو فيه تفاصيل- كما سيأتي صريحًا في آخر هذه السورة بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، وفي افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء- التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم.
أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذًا وتركًا، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له» قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم» فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعًا والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قالك «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له: شهادة أن لا إله إلا الله سهم وهي الملة، والثانية: الصلاة وهي الفطرة، والثالثة: الزكاة وهي الطهور، والرابعة: الصوم وهي الجنة، والخامسة: الحج وهي الشريعة، والسادسة: الجهاد وهي الغزوة، والسابعة: الأمر بالمعروف وهو الوفاء والثامنة: النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة: الجماعة وهي الألفة، والعاشرة: الطاعة وهي العصمة.
وفي سنده من ينظر في حاله؛ قال ابن الزبير: وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» أي في الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر وغيره واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» قال ابن الزبير: وقد تحصلت- أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس- فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم ونتقضهم العهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين- انتهى.
والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية المذكورة في الأنعام وما شابهها من حيوان البر، ولكون الصيد مراد الدخول في بهيمة الأنعام استثنى بعض أحواله فقال: {وأنتم حرم} أي أحلت البهيمة مطلقًا إلا ما يتلى عليكم من ميتاتها وغيرها في غير حال الدخول في الإحرام بالحج أو العمرة أو دخول الحرم، وأما في حال الإحرام فلا يحل الصيد أكلًا ولا فعلًا.
ولما كان مدار هذه السنة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر- إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكر والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللًا: {إن الله} أي ملك الملوك {يحكم ما يريد} أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام- وهذا هو الذي يقوله أصحابنا-: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة. اهـ.

.اللغة:

[العقود] أصل العقد في اللغة: الربط تقول عقدت الحبل بالحبل، ثم استعير للمعاني، قال الزمخشري: العقد العهد الموثق، شبه بعقد الحبل، قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

[بهيمة الأنعام] البهيمة مالآنطق له لما في صوته من الإبهام، والأنعام جمع نعم وهي (الإبل، والبقر، والغنم).
[القلائد] جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من لحاء الشجر، ليعلم أنه هدي.
[يجرمنكم] يكسبنكم يقال: جرم ذنبا أي كسبه، وأجرم اكتسب الإثم.
[شنآن] الشنآن: البغض.
[الموقوذة] الوقذ: ضرب الشيء حتى يسترخي، ويشرف على الموت.
[النصب] صنم وحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده، وجمعه أنصاب كذا في اللسان.
[الأزلام] القداح جمع زلم كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو تجارة ضرب بالقداح وهو الاستقسام بالأزلام.
[مخمصة] مجاعة لأن البطون فيها تخمص أي تضمر، والخمص: ضمور البطن.
[الجوارح] الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب، والفهد، والصقر، والشاهين، سميت جوارح لأنها تجرح صيدها. اهـ.